بسم الله الرحمن الرحيم
بقلم الدكتور :عمر الشاعر
الحمدلله رب العالمين وصلاة وسلاما على المبعوث رحمة للعالمين سيدنا محمد وعلى آله وسلم, أما بعد:
فمن الأقوال التي تثار مرارا وتكرارا ويركز عليها كثيرا غير المسلمين هي مسألة المتاع الحسي للجنة! فيقولون: هل يكون جزاء الإنسان بعد كل سعيه في الدنيا هو هذا الذي تقدمونه في القرآن من أكل وشرب ووطء للحور العين فقط! هل هذا هو غاية الإنسان وأقصى ما يرنو إليه؟! إنه لمن الجلي
لذا فنبدأ متوكلين على الله تعالى في تفنيد هذه الأقوال ليرى القارئ الكريم أنها كلها ما هي إلا زخرف من القول مخالف للعقل وللمنطق!
إذا نحن نظرنا إلى منطلقات القائلين بهذه الأقوال نجد أنها لا تخرج ولا تزيد عن منطلقين إثنين, وهما:
لا يوجد إله ولا توجد حياة أساسا بعد الموت وكل هذا تدليس في تدجيل , أما المنطلق الثاني فهو أنه ينبغي للإنسان بعد الموت أن يكون روحا ويعيش عيشة الملائكة.
فأما الظانون بأنه لا يوجد إله فالأمر عندهم سيان سواء كانت الجنة متاعا ماديا أو روحيا, فكل هذا بالتأكيد من عند محمد ! فلو قال أن المتاع روحي لقالوا: هل يعقل أن يكون جزاء هذا الإنسان الذي مات وهو مطبق للشريعة ومضيق على نفسه وحابس نفسه عن الشهوات أن يصير روحا كالملائكة! إذا لقد نال من تمتع بالدنيا نصيبا أفضل منه بانتفاعه بشهوات الدنيا! إذا فالمسألة بالنسبة للمكذب هي مسألة تكذيب واستهزاء وعناد لأن المسألة من الأصل مرفوضة لديه أما إذا قال: لا , فعلا أن أرى أنه إذا كانت هناك حياة بعد الموت فمن الأولى أن تكون حياة روحية! فننتقل به لنضعه في طائفة القائلين بالحياة الروحية بعد الموت ونرد على كلا الصنفين قائلين:
إن قولكم أن الحياة ينبغي أن تكون روحية بعد الموت متأثر بكتبكم , فلقد ورد في الإنجيل مثلا ما يشير إلى هذا , لا أنه يقوله صراحة , لذا فلقد قلتم بهذا التصور! كما أن هذا القول نابع من تصوركم العجيب للحياة الدنيا والتي ترون فيها الدنيا شر لا بد منه! وأنه على الإنسان أن يتجنبه قدر الإمكان ويتقلل منه قدر المستطاع! لذا فإنه إذا مات الإنسان فمن الأولى أن يصير مثل الملائكة ! كائن روحاني لا يأكل ولا يشرب ولا يمارس الجنس وإنما يستغرق في عبادة الله عزوجل فهذه هي الحياة الحقة! ولست أدري إذا كانت هذه هي العبادة الحقة فلم لم يخلقنا الله تعالى على هيئة الملائكة! وينشأنا ملائكة ابتداءا؟!
أما النظرة الإسلامية إلى هذا الأمر فتختلف اختلافا كليا وجذريا فلسنا مثل الملاحدة المتأثرين بالفكر المسيحي المزهد في الدنيا وإنما نرى أن الإنسان خلق وأوجد في الدنيا ليعمرها ويتمتع بها وليعبد ربه قبل كل شيء! وأنه لا تعارض ولا تضاد بين الإثنين وليس أحدهما أولى من الآخر فليست العبادة تمنعنا من الدنيا وليست الدنيا ملهاة عن العبادة بل وإنه في أكثر الأحوال إذا حدث تداخل بين أوامر الدين وضروريات الدنيا يتنازل عن الأمر من أجل الضرورة فمثلا في حالة المضطر يشرب الإنسان الخمر ويأكل الخنزير وفي حالة الخوف يصلي راجلا أو راكبا وفي حالة المرض يتيمم بدلا من الوضوء إلخ! إذا فنحن نرى الدنيا من منظور أن الإنسان خلق فيها ولها وللآخرة في آن واحد ولا تعارض! أما تلك النظرة المغلوطة الرافضة للدنيا فليس لنا منها نصيب! لذا فإنه من المنطقي جدا أن يكون جزاء الإنسان المطيع المتقي والإنسان المظلوم الذي ضيع حقه في الدنيا أن ينال نصيبه من متاع أفضل في الآخرة في جنات النعيم! وليس في هذا أي حرج أو نقص ! فليس التلذذ بالمطعم أو المشرب أو بالنساء من الخطايا أو الذنوب! أو مما ينقص من قدر الإنسان!
والنقطة التي سببت هذا الإشكال كله هو تلك الفطرة التي غرزها الله عزوجل في نفس كل إنسان وهي أنه لم يخلقه ليأكل ويشرب مثل الأنعام وإنما هو مخلوق لغرض أعلى ولهدف أسمى وهي عبادة الرحمن! لذا فإنا نجد عند كل الناس قاطبة أن الإكثار من المأكل والمشرب مساو للبهيمية! ولكن هذا في الدنيا دار الابتلاء ودار الاختبار والفناء حيث يجب على الإنسان أن يشد الرحال إلى الآخرة! أما إذا عرف ربه وآمن به وخضع له واتبع أمره ونزل على قضائه ووصل إلى الآخرة فما الحرج من تقبل نعيم الرحمن عليه؟!
إذا فلا حرج من النعيم المادي كجزاء من الرحمن لمن اطاعه وكذلك العذاب المادي لمن عصاه ! ولا يقول أحد أن الرحمن أرحم وأكبر من أن يعذب الإنسان فهذه تخرصات وأماني لا أساس لها من الصواب ( وليرجع القارئ إلى تناولنا لسورة التين على موقعنا فسيجد فيها تفنيد هذه الدعاوى!)
أما إذا قال القائل: ليس الاعتراض أساسا على نقطة المتاع الحسي ولكن الاعتراض على التركيز على شهوة الفرج والبطن فلم هذا التركيز العجيب على هاتين النقطتين البسيطتين؟
فنقول له: إن قولك هذا ينم على كونك إما غافل أو متغافل, فليست هاتين النقطتين بسيطتين بحال من الأحوال, بل عليهما معظم النزاع والشقاق بين البشر! بل هما حلم البشرية في جميع أطوارها حتى عصرنا هذا وحتى في العصور القادمة! ونطلب إلى القارئ أن يتذكر ماذا كان منهج الدولة الشيوعية التي توهمت أنها أتت بما لم يأت به الأوائل؟ لقد كان كل همها وكل صراعها وتأصيلاتها من أجل توفير الطعام والشراب والجنس للجميع بالتساوي! وظنوا أن هذا سيكون جنة المادية في الأرض!
فالشيوعية لعبت على هذا الوتر الحساس وأوهمت الجميع بتكفلها بما تكفل به الرحمن وهو توفير المطعم والجنس للجميع بالتساوي, وهذا ما لم ولن يكون في الدنيا لوجود مكنونات الصدور ولاختلاف طبائع الإنسان من فرد إلى آخر! فإذا نحن انتقلنا إلى الناس عامة بغض النظر عن الدولة الشيوعية والفكر الشيوعي سنجد كذلك أن هاتين النقطتين هي سبب عامة حركة وخلاف البشر في الدنيا وما قامت عامة الحروب إلا من أجل تأمين المطعم خاصة والحروب الصليبية المكرورة نموذج أكثر من رائع للنزاع والقتال من أجل اللبن والعسل! ( إن بلاد الشرق تفيض لبنا وعسلا!) فإذا نحن تركنا الدول وانتقلنا إلى الأفراد وجدنا أن هاتين النقطتين جد مركزية لكل فرد فكل منا يحب أن يتلذذ بهذين الصنفين , والإسلام لا يرى في ذلك حرجا , فالله خلقنا بشرا, ما دام لن يؤثر على دور الإنسان في الحياة,فنجد أن عامة حركة الإنسان في حياته من أجل اكتساب هذه الأنواع ومن أجل تأمينها لعياله من بعده!
قد يقول قائل: جميل, ولكن ألا تلاحظ أن ما تقوله يحصر الإنسان في احتياجاته الأساسية من مأكل ومشرب وجنس , أين باقي الاحتياجات إذا؟ الإنسان مكون من جسد وعقل وقلب وروح فأين غذاء باقي هذه الأصناف في الجنة؟ ونحن لا نمانع من وجود هذه الأصناف في الجنة ولكن الناظر يجد أن التركيز هو على هذه الأصناف في الجنة, فهل ينتهي الإنسان إلى جسد في الجنة؟
يتبع ..........................